فصل: تفسير الآيات رقم (103 - 104)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏103 - 104‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏

يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها، ولكن هاهنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك، مما ليس يوجد في غيرها، كما قال تعالى في الأشهر الحرم‏:‏ ‏{‏فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏، وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ‏}‏ أي في سائر أحوالكم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ‏}‏ أي‏:‏ فإذا أمنتم وذهب الخوف، وحصلت الطمأنينة ‏{‏فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ‏}‏ أي‏:‏ فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها، وخشوعها، وسجودها وركوعها، وجميع شئونها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي مفروضا‏.‏ وكذا روي عن مجاهد، وسالم بن عبد الله، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، والحسن، ومقاتل، والسدي، وعطية العوفي‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ إن للصلاة وقتا كوقت الحج‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا‏}‏ قال‏:‏ منجما، كلما مضى نجم، جاءتهم يعني‏:‏ كلما مضى وقت جاء وقت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ‏}‏ أي‏:‏ لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدوا فيهم وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد‏:‏ ‏{‏إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ كما يصيبكم الجراح والقتل، كذلك يحصل لهم، كما قال ‏{‏إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ‏}‏ أي‏:‏ أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد، وهم لا يرجون شيئا من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم، وأشد رغبة في إقامة كلمة الله وإعلائها‏.‏

‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ أي‏:‏ هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه، وينفذه ويمضيه، من أحكامه الكونية والشرعية، وهو المحمود على كل حال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105 - 109‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا‏}‏

يقول تعالى مخاطبا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ هو حق من الله، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ‏}‏ احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان، عليه السلام، له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين من رواية هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع حَلَبَةَ خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال‏:‏ ‏"‏ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة قالت‏:‏ جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد دَرَسَتْ، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألْحَن بحُجَّتِه من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة‏"‏‏.‏ فبكى الرجلان وقال كل منهما‏:‏ حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليُحْللْ كل واحد منكما صاحبه‏"‏‏.‏

وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد، به‏.‏ وزاد‏:‏ ‏"‏إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لمينزل عليّ فيه‏"‏‏.‏

وقد روى ابن مَرْدُويه، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال‏:‏ إن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن طُعْمةَ بن أُبَيْرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته‏:‏ إني غَيَّبْتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده‏.‏ فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا‏:‏ يا نبي الله، إن صاحبنا بريء‏.‏ وإن صاحب الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذُرْ صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه‏.‏ فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذرَه على رءوس الناس، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏[‏يقول‏:‏ احكم بما أنزل الله إليك في الكتاب‏]‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏.‏ وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ‏[‏إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا‏]‏ ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفين بالكذب‏:‏ ‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ ‏[‏وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا‏.‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا‏]‏ يعني‏:‏ الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ‏[‏ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏]‏ يعني‏:‏ الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا‏}‏ يعني‏:‏ السارق والذين جادلوا عن السارق‏.‏ وهذا سياق غريب وكذا ذكر مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدى، وابن زيد وغيرهم في هذه الآية أنها أنزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم، وهي متقاربة‏.‏

وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة، فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية من جامعه، وابن جرير في تفسيره‏:‏ حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحرَّاني، حدثنا محمد بن سلمة الحرَّاني، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قَتَادة بن النعمان، رضي الله عنه، قال‏:‏ كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أُبَيْرق‏:‏ بِشْر وبشير ومُبَشّر، وكان بُشَير رجلا منافقًا، يقول الشعر يهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول‏:‏ قال فلان كذا وكذا، وقال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا‏:‏ والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث‏؟‏ -أو كما قال الرجل -وقالوا ابن الأبيرق قالها‏.‏ قالوا‏:‏ وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدَّرْمَك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضَافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فحطه في مَشْربة له، وفي المشربة سلاح‏:‏ درع وسيف، فَعُدى عليه من تحت البيت، فَنقّبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح‏.‏ فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال‏:‏ يا ابن أخي، إنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه‏.‏ فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا‏.‏ قال‏:‏ فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا‏:‏ قد رأينا بني أُبَيْرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم‏.‏

قال‏:‏ وكان بنو أبيرق قالوا -ونحن نسأل في الدار -‏:‏ والله ما نرى صاحبكم إلا لَبِيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام‏.‏ فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال‏:‏ أنا أسرق‏؟‏ والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة‏.‏ قالوا‏:‏ إليك عنا أيها الرجل، فما أنت بصاحبها‏.‏ فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها‏.‏

فقال لي عمي‏:‏ يا ابن أخي، لو أتيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له‏.‏ قال قتادة‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد، فنَقَبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه‏.‏ فَلْيردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏سآمُرُ في ذلك‏"‏‏.‏

فلما سمع بنو أُبَيْرق أتوا رجلا منهم يقال له‏:‏ أُسَير بن عمْرو فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا‏:‏ يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت‏.‏ قال قتادة‏:‏ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال‏:‏ ‏"‏عمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير ثَبَت ولا بينة‏؟‏‏؟‏ قال‏:‏ فرجعت ولَوَدِدت أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال‏:‏ يا ابن أخي، ما صنعت‏؟‏ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ الله المستعان‏.‏ فلم نلبث أن نزل القرآن‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا‏}‏ بني أبيرق ‏{‏وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ‏}‏ مما قلت لقتادة ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏.‏ وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ‏[‏إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا‏.‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏رَحِيمًا‏}‏ أي‏:‏ لو استغفروا الله لغفر لهم ‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِثْمًا مُبِينًا‏}‏ قولهم للبيد‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏

فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة‏.‏فقال قتادة‏:‏ لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخًا، قد عشا أو عسا -الشك من أبي عيسى -في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال‏:‏ يا ابن أخي، هو في سبيل الله‏.‏ فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا، فلما نزل القرآن لحق بُشَيرٌ بالمشركين، فنزل على سُلافةَ بنت سعد بن سُمَية، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏.‏ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا‏}‏ فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعره، فأخذت رَحْلَهُ فوضعته على رأسها، ثم خرجت به فَرَمَتْ به في الأبطح، ثم قالت‏:‏ أهديتَ لي شِعْر حسان‏؟‏ ما كنتَ تأتيني بخير‏.‏

لفظ الترمذي، ثم قال الترمذي‏:‏ هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني‏:‏ وروى يونس بن بُكَير وغير واحد، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة مرسلا لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده‏.‏ ورواه ابن حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني، عن محمد بن سلمة، به ببعضه‏.‏

ورواه ابن المنذر في تفسيره‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل -يعني الصائغ -حدثنا الحسن بن أحمد ابن أبي شعيب الحراني، حدثنا محمد بن سلمة -فذكره بطوله‏.‏

ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب والحسن بن يعقوب، كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، عن محمد بن سلمة، به‏.‏ ثم قال في آخره‏:‏ قال محمد بن سلمة‏:‏ سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إسرائيل‏.‏

وقد روى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري هذا الحديث في كتابه ‏"‏المستدرك‏"‏ عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار العُطاردي، عن يونس بن بُكَير، عن محمد بن إسحاق -بمعناه أتم منه، وفيه الشعر، ثم قال‏:‏ وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ ‏[‏وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ‏]‏ الآية، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا‏}‏ تهديد لهم ووعيد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ‏[‏فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا‏]‏ أي‏:‏ هَبْ أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدى لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر -وهم مُتَعَبدون بذلك -فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله، عز وجل، الذي يعلم السر وأخفى‏؟‏ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ في ترويج دعواهم‏؟‏ أي‏:‏ لا أحد يكون يومئذ لهم وكيلا ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110 - 113‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا‏}‏

يخبر، تعالى، عن كرمه وجوده‏:‏ أن كل من تاب إليه تاب عليه من أيّ ذنب كان‏.‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، أنه قال في هذه الآية‏:‏ أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وَسَعة رحمته، ومغفرته، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرًا ‏{‏ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال ابن جرير أيضًا‏:‏ حدثنا محمد بن مُثَنَّى، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم ذنبًا أصبح قد كُتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول شيئًا منه قرضه بالمقراض فقال رجل‏:‏ لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا -فقال عبد الله‏:‏ ما آتاكم الله خيرا مما آتاهم، جعل الماء لكم طهورًا، وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏ وقال ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏

وقال أيضًا‏:‏ حدثني يعقوب، حدثنا هُشَيْم، حدثنا ابن عَوْن، عن حبيب بن أبي ثابت قال‏:‏ جاءت امرأة إلى عبد الله بن مُغَفَّل فسألته عن امرأة فَجَرت فحبلت، فلما ولدت قتلت ولدها‏؟‏ قال عبد الله بن مغفل‏:‏ ما لها‏؟‏ لها النار‏!‏ فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال‏:‏ ما أرى أمرك إلا أحد أمرين‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ قال‏:‏ فمسحت عينها، ثم مضت‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة، عن عثمان بن المغيرة قال‏:‏ سمعت علي بن ربيعة من بني أسد، يحدث عن أسماء -أو ابن أسماء من بني فزارة -قال‏:‏ قالعلي، رضي الله عنه‏:‏ كنت إذا سمعت من رسول الله شيئًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه‏.‏ وحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر -قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من مسلم يذنب ذنبًا ثم يتوضأ فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له‏"‏‏.‏ وقرأ هاتين الآيتين‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ‏[‏ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏]‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏

وقد تكلما على هذا الحديث، وعزيناه إلى من رواه من أصحاب السنن، وذكرنا ما في سنده من مقال في مسند أبي بكر الصديق، رضي الله عنه‏.‏ وقد تقدم بعض ذلك في سورة آل عمران أيضًا‏.‏

وقد رواه ابن مَرْدُويه في تفسيره من وجه آخر عن علي فقال‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، حدثنا داود بن مِهْران الدباغ، حدثنا عمر بن يزيد، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي قال‏:‏ سمعت أبا بكر -هو الصديق - يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن وضوءه، ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه، إلا كان حقا على الله أن يغفر له؛ لأنه يقول‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ‏[‏ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏]‏‏.‏

ثم رواه من طريق أبان بن أبي عياش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عن الحارث، عن علي، عن الصديق -بنحوه‏.‏ وهذا إسناد لا يصح‏.‏

وقال ابن مردويه‏:‏ حدثنا محمد بن علي بن دُحَيم حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا موسى بن مروان الرَّقِّي، حدثنا مُبَشِّر بن إسماعيل الحلبي، عن تمام بن نَجِيح، حدثني كعب بن ذُهْل الأزدي قال‏:‏ سمعت أبا الدرداء يحدث قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسنا حوله، وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع، ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما عليه، وإنه قام فترك نعليه‏.‏ قال أبو الدرداء‏:‏ فأخذ رَكْوَة من ماء فاتبعته، فمضى ساعة، ثم رجع ولم يقض حاجته، فقال‏:‏ ‏"‏إنه أتاني آت من ربي فقال‏:‏ إنه‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ فأردت أن أبشر أصحابي‏"‏‏.‏ قال أبو الدرداء‏:‏ وكانت قد شقت على الناس الآية التي قبلها‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، وإن زنى وإن سرق، ثم استغفر ربه، غفر له‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏ قلت الثانية، قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏، ثم قلت الثالثة، قال‏:‏ ‏"‏نعم، وإن زنى وإن سرق، ثم استغفر الله غفر له على رغم أنف عويمر‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فرأيت أبا الدرداء يضرب أنف نفسه بأصبعه‏.‏

هذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه بهذا السياق، وفي إسناده ضعف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ‏[‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏]‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ‏[‏وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏]‏ الآية‏:‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 18‏]‏ يعني أنه لا يجني أحد على أحد، وإنما على كل نفس ما عملت، لا يحمل عنها غيرها؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ أي‏:‏ من علمه وحكمته، وعدله ورحمته كان ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا ‏[‏فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا‏]‏ يعني‏:‏ كما اتهم بنو أُبَيْرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح، وهو لَبِيد بن سهل، كما تقدم في الحديث، أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون، وقد كان بريئًا وهم الظلمة الخونة، كما أطلعَ الله على ذلك رسولَه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف مثل صفتهم وارتكب مثل خطيئتهم، فعليه مثل عقوبتهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ قال الإمام ابن أبي حاتم‏:‏ أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إليَّ، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق‏.‏ عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان -وذكر قصة بني أبيرق، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ يعني‏:‏ أُسَيْر بن عروة وأصحابه‏.‏ يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم، وهم صلحاء برآء، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها لرسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال، وعصمته له، وما أنزل عليه من الكتاب، وهو القرآن، والحكمة، وهي السنة‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏من‏]‏ قبل نزول ذلك عليك، كقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ‏[‏وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏.‏ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ‏]‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52، 53‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 86‏]‏؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114 - 115‏]‏

‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ كلام الناس ‏{‏إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مَرْدُويه‏:‏

حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث، حدثنا محمد بن يزيد بن خُنَيس قال‏:‏ دخلنا على سفيان الثوري نعوده -وأومأ إلى دار العطارين -فدخل عليه سعيد بن حسان المخزومي فقال له سفيان الثوري‏:‏ الحديث الذي كنت حدثتني به عن أم صالح اردُدْه علي‏.‏ فقال‏:‏ حدثتني أم صالح، عن صَفية بنت شَيْبة، عن أم حَبيبَة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كلام ابن آدم كله عليه لا له ما خلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر ‏[‏أو ذكر الله عز وجل‏"‏، قال سفيان‏:‏ فناشدته ‏]‏ فقال محمد بن يزيد‏:‏ ما أشد هذا الحديث‏؟‏ فقال سفيان‏:‏ وما شدة هذا الحديث‏؟‏ إنما جاءت به امرأة عن امرأة، هذا في كتاب الله الذي أرسل به نبيكم صلى الله عليه وسلم أو ما سمعت الله يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ‏}‏ فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏ فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏والْعَصْرِ‏.‏ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ‏.‏ ‏[‏إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏]‏ ‏[‏سورة العصر‏]‏، فهو هذا بعينه‏.‏

وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خُنَيس عن سعيد بن حسان، به‏.‏ ولم يذكرا أقوال الثوري إلى آخرها، ثم قال الترمذي‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن خُنَيس ‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا صالح بن كَيْسان، حدثنا محمد بن مسلم بن عُبَيد الله بن شهاب‏:‏ أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته‏:‏ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرًا -أو يقول خيرًا‏"‏ وقالت‏:‏ لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث‏:‏ في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها‏.‏ قال‏:‏ وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد رواه الجماعة، سوى ابن ماجه، من طرق، عن الزهري، به نحوه‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرة عن سالم بن أبي الجعد، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام والصدقة‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏إصلاح ذات البين‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏وفساد ذات البين هي الحالقة‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود والترمذي، من حديث أبي معاوية، وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سُرَيج بن يونس، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، حدثنا أبي، عن حميد، عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب‏:‏ ‏"‏ألا أدلك على تجارة‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ بلى‏:‏ قال‏:‏ ‏"‏تسعى في صلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتُقَارب بينهم إذا تباعدوا‏"‏ ثم قال البزار‏:‏ وعبد الرحمن بن عبد الله العُمَري لَيّن، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ‏}‏ أي‏:‏ مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل ‏{‏فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ أي‏:‏ ثوابًا كثيرًا واسعًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى‏}‏ أي‏:‏ ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عَمْد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا، فإنه قد ضُمِنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ، تشريفًا لهم وتعظيما لنبيهم ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏‏.‏ وقد وردت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة، قد ذكرنا منها طرفًا صالحًا في كتاب ‏"‏أحاديث الأصول‏"‏، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عول عليه الشافعي، رحمه الله، في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تَحْرُم مخالفته هذه الآية الكريمة، بعد التروي والفكر الطويل‏.‏ وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك واستبعد الدلالة منها على ذلك‏.‏

ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك، بأن نحسنها في صدره ونزينها له -استدراجًا له -كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏5‏]‏‏.‏ وقوله ‏{‏وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏‏.‏

وجعل النار مصيره في الآخرة، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ‏[‏وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ‏.‏ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏]‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22، 23‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏53‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116 - 122‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا‏}‏

قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة، وهي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ‏[‏لِمَنْ يَشَاءُ‏]‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة‏.‏

وقد روى الترمذي حديث ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة سعيد بن عَلاقَةَ، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ما في القرآن آية أحب إليَّ من هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ الآية، ثم قال‏:‏ حسن غريب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا‏}‏ أي‏:‏ فقد سلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى وبعد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمود بن غَيْلان، أنبأنا الفضل بن موسى، أخبرنا الحسن بن واقد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب‏:‏ ‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا‏}‏ قال‏:‏ مع كل صنم جنيَّة‏.‏

وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن سلمة الباهلي، عن عبد العزيز بن محمد، عن هشام -يعني ابن عروة -عن أبيه عن عائشة‏:‏ ‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا‏}‏ قالت‏:‏ أوثانا‏.‏

وروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، ومجاهد، وأبي مالك، والسدي، ومقاتل بن حيان نحو ذلك‏.‏

وقال جُوَيْبر عن الضحاك في ‏[‏قوله‏]‏ ‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا‏}‏ قال المشركون‏:‏ إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال‏:‏ اتخذوها أربابا وصوروهن صور الجواري، فحكموا وقلدوا، وقالوا‏:‏ هؤلاء يُشْبهن بنات الله الذي نعبده، يعنون الملائكة‏.‏

وهذا التفسير شبيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى‏.‏ ‏[‏مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى‏.‏ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى‏.‏ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى‏.‏ إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ‏]‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19-23‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ‏[‏أشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ‏]‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏.‏ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ‏]‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158، 159‏]‏‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة والضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا‏}‏ قال‏:‏ يعني موتى‏.‏

وقال مبارك -يعني ابن فَضَالة -عن الحسن‏:‏ ‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا‏}‏ قال الحسن‏:‏ الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وهو غريب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا‏}‏ أي‏:‏ هو الذي أمرهم بذلك وحسنه لهم وزينه، وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ‏[‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏]‏ ‏[‏يس‏:‏ 60‏]‏ وقال تعالى إخبارًا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا‏:‏ ‏{‏بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَعَنَهُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ طرده وأبعده من رحمته، وأخرجه من جواره‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا‏}‏ أي‏:‏ مُعَيَّنا مقدَّرًا معلومًا‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة‏.‏

‏{‏وَلأضِلَّنَّهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عن الحق ‏{‏وَلأمَنِّيَنَّهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أزين لهم ترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغرهم من أنفسهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ‏}‏ قال قتادة والسدي وغيرهما‏:‏ يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة‏.‏

‏{‏وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني بذلك خصاء الدواب‏.‏ وكذا روى عن ابن عمر، وأنس، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وأبي عياض، وأبي صالح، وقتادة، والثوري‏.‏ وقد وَرَدَ في حديث النهي عن ذلك‏.‏

وقال الحسن ابن أبي الحسن البصري‏:‏ يعني بذلك الوَشْم‏.‏ وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه وفي لفظٍ‏:‏ ‏"‏لعن الله من فعل ذلك‏"‏‏.‏ وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ لعن الله الواشمات والمستوشِمات، والنامصات والمُتَنَمِّصَاتِ، والمُتَفَلِّجات للحُسْن المغيّرات خَلْقَ الله، عز وجل، ثم قال‏:‏ ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، عز وجل، يعني قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقال ابن عباس في رواية عنه، ومجاهد، وعكرمة أيضا وإبراهيم النخَعي، والحسن، وقتادة، والحكم، والسدّي، والضحاك، وعطاء الخُراساني في قوله‏:‏ ‏{‏وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ دين الله، عز وجل‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ على قول من جعل ذلك أمرا، أي‏:‏ لا تبدلوا فطرة الله، ودعوا الناس على فطرتهم، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كل مولود يولد على الفِطْرَة، فأبواه يُهَوِّدانه، ويُنَصِّرَانه، ويُمَجِّسَانه، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعاء، هل يَحُسّون فيها من جدعاء‏؟‏‏"‏ وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حِمَار قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قال الله عز وجل‏:‏ إني خلقتُ عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فْاجْتَالَتْهُم عن دينهم، وحَرّمت عليهم ما أحللت لهم‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا‏}‏ أي‏:‏ فقد خسر الدنيا والآخرة، وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا‏}‏ وهذا إخبار عن الواقع؛ لأن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا‏}‏ كما قال تعالى مخبرًا عن إبليس يوم المعاد‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ‏[‏إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ‏]‏ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ أي‏:‏ المستحسنون له فيما وعدهم ومناهم ‏{‏مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ أي‏:‏ مصيرهم ومآلهم يوم حسابهم ‏{‏وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا‏}‏ أي‏:‏ ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف، ولا خلاص ولا مناص‏.‏

ثم ذكر حال السعداء الأتقياء وما لهم في مآلهم من الكرامة التامة، فقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ أي‏:‏ صَدّقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات ‏{‏سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ‏}‏ أي‏:‏ يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏ أي‏:‏ بلا زوال ولا انتقال ‏{‏وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا‏}‏ أي‏:‏ هذا وعد من الله ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر، وهو قوله‏:‏ ‏{‏حقا‏}‏ ثُمَّ قَال ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أصدق منه قولا وخبرًا، لا إله إلا هو، ولا رب سواه‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته‏:‏ ‏"‏إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهَدْي هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور مُحْدَثاتها، وكل مُحْدَثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار‏"‏‏.‏